Home | About LCPS | Contact | Careers

Featured Analysis


ميلاني كاميت ولمى مراد, على التوالي أستاذة في جامعة هارفارد وزميلة أقدم في المركز اللبناني للدراسات، وزميلة ما بعد الدكتوراه في بيري وورلد هاوس في جامعة بنسلفانيا، وزميلة ما بعد الدكتوراه في مجلس البحوث في العلوم الانسانية في جامعة هارفارد بنسلفانيا وزميلة في المركز اللبناني للدراسات
 



April 2020
الأزمتان التوأم وآفاق الطائفية السياسية في لبنان

 
قام المركز اللبناني للدراسات باستطلاع رأي خبراء بارزين للإجابة على سؤال واحد: "هل ستؤدّي الأزمة المالية التي ازدادت حدّتها مع فيروس كورونا الى تعزيز سلطة الأحزاب السياسية الحاكمة في لبنان أو ستخفّف من سلطتها؟" ندعوكم لقراءة وجهات نظرهم المختلفة في الأيام القليلة المقبلة.
 
الأزمة الاقتصادية وهشاشة التقاسم الطائفي للسلطة

ما بدأ كاحتجاج عفوي على ضريبة تراجعية أخرى في 17 تشرين الأول من العام الماضي سرعان ما تحوّل إلى انتفاضة شعبية حملت في جعبتها مجموعة واسعة وشاملة من المطالب وانتشرت عبر كافة الأراضي اللبنانية. أبرز ما نادى به المحتجّون هو شعار "كلّن يعني كلّن" الذي جاء ليتحدّى فساد الطبقة السياسية الطائفية برمّتها ونجح في تسليط الضوء على الدور الذي لعبته، إلى جانب المصارف، فتسبّبت بالانهيار المالي في البلاد. لقد تحدت الأزمة والثورة التي ترتّبت عنها أسس التقاسم الطائفي للسلطة.
 
انطلاقاً مما نعرفه عن تقاسم السلطة، ليس من المستبعد أن ينهار. في الواقع، متى يُمنح أبرز السماسرة الموجودين في السلطة مقعدًا على الطاولة، ولدى مأسسة صنع القرار بشكل توافقي مع حق نقض صنع السياسات، تخلق أنظمة تقاسم السلطة ميلاً نحو سوء الحوكمة ومقاومة الإصلاحات1. وفيما تجد النخب السياسية مصلحة راسخة في الحفاظ على الوضع الراهن، فإن الأعداء بينهم يضعون خلافاتهم جانباً لرصّ الصفوف والدفاع عن النظام القائم. وحدها الصدمات الكبرى - مثل الحروب أو الانهيار الاقتصادي – قادرة على إزاحة هذه السلطة.
 
ومع فراغ الخزينة العامة في البلاد، تبيّن أن تقاسم السلطات بدأ أخيراً يزرع بذور دماره. فمع تقلص قدرات الدولة المالية وتراجع ميزانيات الأحزاب الطائفية والمنظمات التابعة لها، أصبحت شبكات المحسوبية التي تُعتبر شريان حياة هذا النظام معرّضة لخطر شديد. والمؤكّد أن التفكيك الفعلي للنظام لا يفرض تآكل شبكات المحسوبية وحسب- قد تعوّض عنها النخب السياسية جزئياً من خلال القمع المتزايد - بل أيضاً ظهور أحزاب جديدة وجهات فاعلة سياسية تتمتّع بقدرة تنظيمية مستدامة. مهما يكن من أمر، أدّت الأزمة الاقتصادية والثورة الى تسديد ضربة قوية للنظام.
 
فيروس كورونا: هدية طائفية؟
 
لكن استجدّ فيروس كورونا. قد تكون هذه الأزمة الجديدة أكبر هدية تُقدّم للأحزاب في المستقبل المنظور. أولاً، فرضت متطلبات الصحة العامة التخفيف من الاتصال الاجتماعي وما ترتب على ذلك من إغلاق للدولة، مما قضى على إمكانية التظاهر الجماهيري الجماعي. وأدى ذلك فعلياً إلى تقويض قناة محورية لبناء تضامن شمولي أكبر سببُه المعاناة الاقتصادية المشتركة عوضاً عن الانقسامات التي عملت النخب الحاكمة جاهدةً لإدامتها. ففعل الاحتجاج نفسه الذي امتد على مستوى الوطن أتى كرمز وكمولّد للوحدة متجاوزاً الانقسامات الإقليمية والطائفية والطبقية في لبنان. كما رأينا مؤخراً، عمدت سلطات الدولة الى تدمير ما تبقى من الخيام الاحتجاجية في وسط بيروت وطرابلس تحت ذريعة إنفاذ أمر ملازمة المنزل. ثانيًا، وبينما تقع مسؤولية الأزمة الاقتصادية وبشكل واضح على الطبقة السياسية الفاسدة، فإن فيروس كورونا له فائدة – بالنسبة للأحزاب السياسية - في كونه لا يحملها اللوم. طبعاً وُجهت انتقادات إلى طريقة استجابة الدولة والنخب السياسية، لكن الوباء نفسه لم يكن من صنعها.
 
والأهم من ذلك هو أن الدولة نفسها لديها قدرة محدودة على معالجة الأزمة لأسباب سبقت الأزمة المالية وفاقمتها. لا شك أن التكنوقراط في وزارة الصحة العامة وموظفي المستشفيات يعملون جاهدين لمواجهة التحدي، وكما قالت فاطمة الصياح في المركز اللبناني للدراسات، معدّل الفحوصات في البلاد، ولو أنه لا يزال ضئيلاً، أفضل من العديد من البلدان الأخرى. لكن بقدر ما كانت هذه الجهود شجاعة، فإنها لن تكفي لرفع تحدي الوباء، لاسيما أن النقص أصلاً في الدولار يهدد القدرة على استيراد الإمدادات الطبية التي تشتد الحاجة إليها. في 8 نيسان، بلغ عدد حالات كورونا المؤكدة في البلاد 575، مع 19 حالة وفاة، وفقًا للأرقام التي وفّرتها وزارة الصحة العامة، على الرغم من أن الكثيرين يخشون أن تكون هذه الأرقام دون العدد الحقيقي للحالات في بلد.
 
في سياق ضعف قدرات الدولة وتدابير الإغلاق، وفّر فيروس كورونا للأحزاب الطائفية فرصة لتثبّت دورها وتبدو وكأن لا غنى عنها في ضمان الرفاه العام الأساسي للمواطنين اللبنانيين. ولعلّ "خطة حزب الله للاستجابة لفيروس كورونا" هي الأبرز والأوسع نطاقاً، حيث جرت تعبئة أكثر من 20 ألف عامل في مجال الرعاية الصحية وتجهيز مراكز طبية ومستشفيات في جميع أنحاء البلاد. لكن رؤية صور للأحزاب السياسية "تطهّر" الأحياء، وتبني مراكزاً للحجر الصحي، وتوزّع الأقنعة التي تحمل شعاراتها عبر البلاد أصبحت شائعة الآن. وفي بعض الحالات، يتجاوز عملها الأراضي اللبنانية. على سبيل المثال، أعلنت القوات اللبنانية عن إنشاء "خلايا أزمات" للمساعدة في تنسيق عودة اللبنانيين المغتربين وتقديم المساعدة المالية والدعم عند الحاجة. يوجد سباق على تقديم هذه الخدمات، في العلن لغرض اكتساب الشعبية، مع عملية الإغلاق التي تضمن اضطرار المواطنين للاعتماد على خدمات الأحزاب.
 
بما أنّ فيروس كورونا لا يعرف الحدود الحزبية أو الطائفية، فإن جهود الأحزاب للحدّ من انتشار المرض ستنتشر بالتأكيد في كل مكان. لكن هل ستوفر الأحزاب الطائفية الوصول العادل والمنصف للعلاج مع إعطاء الأفضلية لمناصريها؟ في بعض الظروف، لدى الأحزاب حوافز لتقديم الخدمات على نطاق واسع، متخطيةً جماعاتها أو قاعدة مناصريها2. قد تؤدي الطبيعة المعدية لهذا الفيروس المستجد إلى زيادة هذه الحوافز. على سبيل المثال، في إحدى المقابلات، أشار هاشم صفي الدين، رئيس المجلس التنفيذي لحزب الله، إلى أن الحزب يقدم الدعم في عدد من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين بطلب من سلطات المخيمات.
 
لكن في بيئة من التقنين، هل ستتمكّن الأحزاب من توفير الوصول إلى العلاج بشكل حيادي وشامل للجميع؟ قد يحصل ذلك في إطار توزيع المساعدة الاقتصادية قصيرة الأجل على الأسر. وكما حال أحزاب أخرى، بدأ التيار الوطني الحر، على سبيل المثال، بتوزيع صناديق الأغذية على "الأسر المحتاجة" في المناطق على اختلافها. هذه الخدمات تسمح بالتوزيع الانتقائي أكثر من سواها، وفي ظل عدم وجود شبكة أمان اجتماعي شاملة ومع محدودية البرنامج الوطني لاستهداف الفقر، ستكون حاسمة بالنسبة للعديد من اللبنانيين الذين انتفت مصادر دخلهم على مدى الأشهر الأخيرة ويجدون أنفسهم غير قادرين على الذهاب إلى العمل بسبب إجراءات الإغلاق.
 
التضامن الاجتماعي في زمن كورونا
 
إن التضامن الاجتماعي لمعالجة أزمة كورونا أمر بالغ الأهمية كي يمتثل الناس للتضحيات الهائلة التي تتطلبها مكافحة انتشار الوباء. ويمكن للمصلحة الذاتية كدافع للالتزام بتوجيهات الصحة العامة أن تنهار بسهولة مع مرور الوقت، خاصة مع احتدام تدهور الظروف الاقتصادية للناس. كما أن الإكراه إلى أجل غير مسمى غير ممكن وقد يحرّض على إثارة الاضطرابات.  في نهاية المطاف، يجب على الناس الامتثال طواعية. من الواضح وجود تحديات كبيرة أمام تحقيق التضامن الاجتماعي في لبنان نظراً للانقسامات الطائفية المسيّسة إلى جانب الانقسامات الأخرى. غير أنّ ثورة تشرين الأول أظهرت أنها ليست مستعصية لاسيما مع الدعوات إلى الاتحاد من طرابلس إلى صور حيث لمّحت إلى عملية قلب النظام. مع ذلك، عودة الرعاية السياسية الطائفية في وقت الحاجة يشكل تحديًا مباشرًا أمام هذا التضامن الناشئ. لطالما اتسم الوصول إلى الرعاية الصحية، من بين الخدمات الأساسية الأخرى، بتفاوتات عميقة اقتصادية وحزبية، وستكون حاسمة حالياً.
 
في هذه الفترة، قد تتفاقم الانقسامات الاجتماعية الأخرى على صعيد الطبقة والجنسية. وفيما يشق فيروس كورونا طريقه إلى مخيمات اللاجئين، حيث تكاد تكون ممارسات التباعد الاجتماعي الآمن مستحيلة وحيث الوصول إلى الوسائل اللازمة للنظافة الأساسية محدود، من الضروري تجنّب تحويل اللاجئين الى كبش محرقة كما حصل سابقاً. ولهذه الغاية، دعت السلطات صراحة إلى الإنصاف في الحصول على الفحص والعلاج. على سبيل المثال، دعا وزير الصحة العامة في الآونة الأخيرة المدعي العام للتحقيق وفرض عقوبات على المستشفيات التي تمنع دخول المرضى على أساس الجنسية، بعد وفاة سوري كان في حالة حرجة ولم يتمكن من الحصول على العناية، وأكد الوصول إلى الرعاية الصحية للجميع، بما في ذلك للفلسطينيين والسوريين.
 
كما هو الحال في بلدان أخرى تفتقر إلى شبكات الأمان الاجتماعي الشاملة، يقع العبء الأكبر لكل من الأزمة الاقتصادية والوباء على الفئات ذات الدخل المنخفض. مع مرور الوقت - ولن تنتهي أزمة الصحة العامة هذه بسرعة - سيكون من الأصعب على الفقراء الامتثال للتعليمات بملازمة المنزل والامتناع عن الذهاب إلى العمل. وتشير بعض التقارير إلى أن هذا قد حدث بالفعل، حيث تحدّى المتظاهرون حظر التجول في مناطق عديدة في لبنان، مثل عكار وطرابلس وضواحي بيروت، احتجاجاً على الظروف الاقتصادية الصعبة. من المرجح أن يؤدي الوضع الاقتصادي المتردي الذي تفاقم بشدة بسبب أزمة الصحة العامة إلى جعل الأكثر عوزاً يعتمدون على الخدمات الاجتماعية التي توفرها الجماعات الطائفية.
 
وبالعودة إلى سؤالنا الأساسي، هل ستؤدي هاتان الأزمتان، الاقتصادية والصحية، إلى تقويض سلطة الأحزاب السياسية الحاكمة في لبنان أم ستقوّيها؟
 
على المدى القصير، قد يكون للأزمة المالية ولأزمة فيروس كورونا آثار تعويضية على مصير التقاسم الطائفي للسلطة. ففي حين أن الأولى أدّت إلى استنفاد شبكات المحسوبية التي تدعم الأحزاب الطائفية، وفّرت الثانية فرصًا للأحزاب كي تبرز وتبيّن أفضالها على الناس. لكن التحدي الأبرز يكمن في الموارد على المدى الطويل. عندما تمرّ أزمة فيروس كورونا، ماذا سيتبقى للأحزاب السياسية الطائفية وكيف ستعالج التحديات الاقتصادية القادمة التي ستزداد خطورة؟ من شبه المؤكد أن الأحزاب الحاكمة عاجزة عن معالجة الأزمة الاقتصادية بطريقة دائمة وشاملة لأن القيام بذلك سيؤدي إلى تفكيك النظام ذاته الذي دعمها. ولكن حتى ظهور منافس جادّ، مع رؤية مقنعة لواقع سياسي بديل وقدرة تنظيمية على التعبئة على المستوى الوطني، قد تضعف أسس الطائفية السياسية لكنها لن تنهار، أقلّه الآن.
 
1- Roeder P. and D. Rothchild, eds. 2005. Sustainable Peace: Power and Democracy After Civil Wars. Ithaca, NY: Cornell University Press.
2- Cammett, M. 2014. Compassionate Communalism: Welfare and Sectarianism in Lebanon. Ithaca, NY: Cornell University Press.








Copyright © 2024 by the Lebanese Center for Policy Studies, Inc. All rights reserved. Design and developed by Polypod.