Home | About LCPS | Contact | Careers

Featured Analysis


باسل صلّوخ , أستاذ مشارك في العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الأميركية في بيروت


February 2018
ملذّات الطائفيّة

ممّا لا شكّ فيه أنّ الطائفيّة تشكّل مصدرًا فعليًّا للملذّات بالنسبة إلى النخبة الاقتصاديّة السياسيّة في لبنان، إلى جانب ما تعود به عليها من مكافآت ماديّة. فلا يمكن تفسير الانصياع البغيض لها من قبل أكثريّة الشعب، رغم الكارثة الاقتصاديّة والماليّة والاجتماعيّة والبيئيّة المحدقة به، إلاّ بمزيج من العنف التأديبي، والهيمنة العقائديّة، والأمل بالانخراط في شبكات واسعة من الزبائنيّة.
 
ثمة شعور مثير للقلق من تزايد الخوف لدى اللبنانيين حتّى في نفوس أكثرهم سعادة". فالمتعهّدون يتذمّرون من تراجع المبيعات في قطاع العقارات، في حين تحفر سماء بيروت أثلامٌ من المباني الجديدة العملاقة والفارغة. فلا حركة في الأسواق، حتّى بالنسبة إلى الشقق الصغيرة- أي تلك الّتي تتراوح مساحتها بين 110 و160 مترًا مربّعًا. ورغم ذلك، اصطدمت الأسعار بنوعٍ من الحاجز الخفيّ، وهي تقاوم أيّ انخفاض. والمذهل أنّ المتعهّدين يواصلون بناء المباني السكنيّة الجديدة، كما لو انّهم يتعمّدون حفر قبورهم بأيديهم. ويبدو أنّ تدخّلات مصرف لبنان الّذي يقدّم قروض مدعومة  للإسكان  بفائدة مخفّضة هي وحدها ما تمنع انهيار قطاع العقارات، علمًا أنّ القطاعات الاقتصاديّة الأخرى لا تسجّل أداءً أفضل.
 
وقد أجهزت الحرب على سوريا على القطاع الزراعي المشلول أصلاً في لبنان، مع إقفال الطرق البريّة الّتي كانت تتيح نقل الصادرات الزراعيّة اللبنانيّة إلى عمق الأراضي العربيّة المجاورة. وقلّما يتيح الاقتصاد القائم على الريعيّة والدولة الّتي تمكّنت منها الزبائنيّة أي مجال لتقديم حوافز الاستثمار في قطاعي الصناعة والتصنيع المنتجين للوظائف. ونتيجة لذلك، وصل معدّل البطالة عام 2017 إلى نحو 25%، لكنّه بلغ 37% في صفوف من هم دون الخامسة والعشرين من العمر. وقد بلغ التفاوت في الدخل أيضًا، وهو السمةً الدائمة والبائسة لما يُسمّى بالمعجزة اللبنانيّة، مستوياتٍ خطيرة. وخلُصَت دراسة حديثة إلى أنّ الـ10% الأعلى دخلاً يشكّلون ما يعادل 57.1% من إجمالي الناتج المحلّي، وأنّ إجمالي عائدات 1% فقط من هذه الشريحة تساوي ما يقارب 23.4% من إجمالي الناتج المحلّي. وليست هذه النسب مجرّد مؤشّرات اقتصاديّة، فهي تحدّد ملامح التصوّرات الذاتيّة للممارسات التمييزيّة الفادحة لاقتصاد ما بعد الحرب، الّتي طالت مفاعيلها الحياة اليوميّة، تحت شكل الفساد المستشري وانتهاك القوانين الشامل للطبقات، وهو ما بات يشكّل القاعدة في لبنان. وقد فاقم من المأزق الاقتصادي في لبنان مزيج من الحروب الإقليميّة الجيوسياسيّة ومسار إعادة التنظيم الاقتصادي في دول الخليج، ما تُرجم تقلّصًا في أسواق العمالة، وتضاؤلاً في تحويلات المهاجرين الّتي ترفد ميزان المدفوعات اللبناني. ويُضاف إلى ذلك التدهور البيئي الّذي لا رجعة فيه، والّذي يشكّل كارثة مستمرّة من صنع الإنسان وحده. فقد اكتشف هذا البلد المتوسّطي حلاًّ سحريًّا لأزمة النفايات، وبدأ باستصلاح الأراضي في البحر من خلال ردمه بالنفايات القديمة، وبات لبنان "غارقاً في نفاياته" بحسب أحدث التقارير. ويتوّج ذلك كلّه بالعنف اليومي، ولا سيّما العنف الذي يمارس ضدّ النساء واللاجئين السوريّين بنتيجةً ضعف مؤسسات الدولة وإفلاتها من المساءلة، وذكوريّة المجتمع المتحالف مع المؤسّسات والعقائد الطائفيّة.
 
وكيف تتعاطى النخبة الطائفيّة السياسيّة مع هذه الظروف الصعبة والحالكة؟ لقد بادرت إلى التعاقد مع شركة ماكنزي للمساعدة على إحياء الاقتصاد! كما لو أنّ مشكلة اقتصاد ما بعد الحرب في لبنان تكمن في التشخيص وليس في الفساد المستشري الّذي يشحّم شبكات الزبائنيّة الطائفيّة، ولا في الخيارات الماليّة والنقديّة الّتي تكرّس الطابع غير المنتج والريعي للاقتصاد على حساب الاستثمارات في الاقتصاد الحقيقي. وتتخاصم النخب على التعيينات في القطاع العام إثر فشلها في تحقيق التوازن الطائفي، وتُصدر قانونًا انتخابيًا صُمّم خصّيصًا لإعادة إنتاج الشروخ المذهبيّة نفسها الّتي سادت أيّام الحرب بين الّلبنانيّين، وهو معدّ عمدًا ليصعّب على المجموعات اللاطائفية أو الشاملة للطوائف دخول الهيئة المشرّعة لتضخّ فيها جرعةً من المساءلة الّتي باتت تشكّل حاجة ملحّة. وتقوم إلى ذلك بفبركة الأزمات الدستوريّة بدون داعٍ وفي غير أوانها، بغية شحن العصب الطائفي وشيطنة الطوائف الأخرى.
 
ويشي ذلك بإحساس غريب بأنّ الشغل الشاغل للنخبة الطائفيّة يتمثّل بإلقاء القنابل الصوتيّة لتشتيت الانتباه عن الفوضى الاجتماعيّة-الاقتصاديّة، والبيئيّة، والنقديّة الّتي آل إليها لبنان ما بعد الحرب، وقد لعبت هذه النخبة دورًا أساسيًّا في إحداثها، وإلاّ، فكيف يمكن تفسير التحوّل المفاجئ في البلاد، في غضون بضعة أشهر، من اتفاق النخبة الّذي حمى البلد من محاولة خارجيّة لتقويض الصفقة الداخليّة الخارجيّة المتداخلة الّتي أوصلت ميشال عون إلى الرئاسة – وهو الاتّفاق نفسه الّذي أعاد سعد الحريري إلى ترؤس الحكومة – إلى الخصام السياسي بشأن مجموعة من القضايا، تتضمّن دستوريّة مرسوم رئاسي لترقية 200 ضابط من دفعة 1994 لا يحمل توقيع وزير الماليّة (الشيعي).
 
ومع استعادة الحجج المسيّسة في معظمها من قبل الطرفين المعنيين بالجدل الدستوري – الّذي يتطابق جلّه مع الخطاب والحشد الطائفيّين اللذين يسبقان الانتخابات النيابيّة – فإنّ هذا التحوّل من مرحلة من شأنها أن تكون تأسيسيّة، كان من الأجدى أن يُبنى خلالها توافق وطني جديد يحصّن البلد من التدخّلات الخارجيّة على غرار المعارك الجيوسياسيّة الدائرة في سوريا، إلى النموذج الطائفي الاعتيادي، يؤدّي إلى شلل في مؤسّسات الدولة ويشتّت الانتباه عن الأزمات الاقتصاديّة-الاجتماعيّة والبيئيّة الّتي يتمّ تأجيل حلّها إلى أجل غير مسمّى،
 
ما يعرّضنا للخطر. إلاّ أنّ هذا لا يُبرّئ اللبناني العادي من كلّ ذلك، فكثيرون هم الّذين يشاركون طائعين مختارين في هذه التقلّبات الطائفيّة، ويتحجّجون بالطائفيّة لستر مخالفاتهم. ويشارك آخرون، ممّن وقعوا منذ زمن طويل في شرك الطائفيّة الزبائنيّة، كمتواطئين منصاعين في إعادة إنتاج هذا النموذج، وإن أتى ذلك على حساب رفاههم. وفي هذا الوقت، لا ينفكّ البلد يغرق في النفايات، والتلوّث، والدين، وتفاوت الدخل، وأزمات السير، والعنف، والفوضى القانونيّة.
 
ولا بدّ من إيجاد مقياس للذّة الّتي يتفرّد بها أولئك القادرين على نشر الطائفيّة بهذه الفاعليّة والدقّة، وعلى قلب المزاج العام في البلد من المصالحة الوطنيّة إلى العداء. لا شكّ أنّهم يستمدّون اللذة من رؤية الناس يعانون كلّ هذه المآسي، وهم هانئون مطمئنّون إلى أنّ العنف التأديبي، والهيمنة العقائديّة، والشبكات الزبائنيّة الواسعة للطائفيّة تحمي من أيّ تمرّد شعبي محتمل. فكم هي مؤلمة ومؤذية حقًا ملذّات الطائفيّة !
 
 
* استعرت العنوان طبعًا من عنوان فصل "ملذّات الإمبرياليّة" بشأن روديارد كيبلنغ في كتاب إدوار سعيد "الثقافة والإمبرياليّة".






Copyright © 2024 by the Lebanese Center for Policy Studies, Inc. All rights reserved. Design and developed by Polypod.