November 2017
الحريري عاد ولكنّ سيادة لبنان لا تزال مخطوفة

يبدو أنّ لرئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري ما يكفي من الأصدقاء لينجو من المنفى. فبقيادة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (الّذي تعيّن عليه السفر إلى السعوديّة ليضمن خروج رئيس الحكومة من المملكة) وبدعمٍ من الولايات المتحدة الأميركيّة، نجح الحريري لا بالإفلات من قبضة السعوديّة والعودة إلى لبنان عبر فرنسا وحسب، بل أيضًا بالتراجع عن استقالته الجبريّة حتّى إشعارٍ آخر. فاستقرار لبنان في هذه المرحلة كان بالنسبة للأوروبيّين والولايات المتحدة أهمّ من أن تُترك قضيّة الحريري "كشأن داخلي" سعوديّ. ذلك أن سقوط الحكومة اللبنانيّة بالنسبة إليهم بسببٍ "التدخل الإيرانيّ غير المشروع" والتداعيات السياسيّة والأمنيّة الّتي من شأنها أن تتأتّى عن ذلك، لم يكن مقبولًا، سيّما أنّ لبنان يواجه طيفًا من التحدّيات تشمل تبعات الحرب السوريّة، ولا سيما منها أزمة اللاجئين.
 
وبالفعل، فقد اضطلعت الجهات الداخليّة بدورٍ أساسيّ في احتواء الأزمة. فقد أتاح رفض الرئيس ميشال عون لاستقالة الحريري في الرابع من تشرين الثاني للفاعلين المحليّين والدوليّين كسب ما يكفي من الوقت للردّ على هذه الخطوة السعوديّة. وقد اجتاز الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله بكلِّ حذرٍ حقل الألغام السياسيّ الّذي زُرِعَ لحزبه، من خلال الدعوة إلى عودة الحريري وعدم التصعيد. إلى ذلك، بدا أنّ حزب الله يستجيب لشواغل الحريري، وإن من الناحية الشكليّة. فقد أعلن نصرالله في خطابه الأخير النصر على الدولة الإسلاميّة وذلك لإرضاء قاعدته الشعبيّة، ولكنّه حاول أيضًا تهدئة غضب القادة العرب إزاء المغامرات العسكريّة لحزب الله. ولمّح، ردًّا على اتّهام الجامعة العربيّة بأنّ حزب الله منظّمة "إرهابيّة" تتدخّل في شؤون البلدان العربيّة، بأنّ تدخّل الحزب في العراق وسوريا شارف بكلّ الأحوال على نهايته. أمّا فيما خصّ اليمن، فقد أنكر نصرالله أيّ وجودٍ عسكريّ لحزب الله فيه، في محاولةٍ لدحض الاتهامات السعوديّة بأنّ الحزب هو وراء الصاروخ الّذي أُطلِقَ على الرياض في الرابع من تشرين الثاني. وبذلك فقد مهّد الطريق أمام الحريري لكي يستعيد زمام مهامه كرئيسٍ لمجلس الوزراء ويعاود دخول المعترك السياسي.
والواقع هو أنّ اصطفاف المصالح الإقليميّة والداخليّة، هو تحديدًا ما حافظ على الاستقرار السياسيّ للبنان منذ العام 2005. فعلى الرغم من الشحن الداخليّ ما بين قوى 8 و14 أذار خلال هذه الفترة كان لهذه الأحزاب السياسيّة الحاكمة الكثير على المحك من الناحيتين السياسيّة والاقتصاديّة، بحيث لم يكن يناسبها الإطاحة بهذا الاستقرار على الرغم من اشتداد حدّة خلافاتها. وقد توزّعت السلطة بشكل أكثر تكافؤَا على المجموعات الطائفيّة الثلاث الأساسيّة خلال حقبة ما بعد الطائف. كما أنّ ثرواتها في القطاعين العقاريّ والمصرفيّ موزّعة أيضًا على نطاقٍ أوسع مقارنةً بسنوات ما قبل الحرب. وبالفعل، فإنّ ذلك يجعل من أيّ نزاعٍ محليّ بالغ الكلفة بالنسبة إلى جميع اللاعبين الأساسيّين.
 
إلّا أنّ الأمن والاستقرار النسبيّين الّذين تقوم عليهما هذه المصالح المتباينة لا يشكّلان إلّا جانبًا واحدًا من هذه العملة. ففي حين أنّ القيادة السياسيّة للبلاد قد بذلت قصارى جهدها لاحتواء النزاعات وتعاونت حتّى في مواجهة التحدّيات الخارجيّة المتمثّلة بالمجموعات المسلّحة (مثل الشيخ أحمد الأسير والدولة الإسلاميّة) أو المجتمع المدني (مثل المبادرات الانتخابيّة المستقلّة أو رابطة الأساتذة) فإنّ هذه القيادة نفسها قد فشلت في تقديم الخدمات العامّة لمواطنيها.
 
ويُضاف إلى ذلك التفاهم الإقليميّ ولا سيّما بين إيران والسعوديّة لدرء النزاعات الإقليميّة عن لبنان. فبالنسبة إلى طهران، يجب أن يبقى لبنان هادئًا لضمان أمن حزب الله في مغامراته الإقليميّة، في حين استثمرت الرياض بكثافة في لبنان إلّا أنّ لتأثيرها حدود بحسب ما اتضح جليًّا في أيّار 2008.
 
وتفسّر هذه العوامل لماذا اعُتبرت الاستقالة الجبريّة للحريري "انتهاكًا" لهذا التفاهم الضمنيّ وتهديدًا بتقويض استقرار البلاد. فالتغيّر غير المتوقّع في السياسة لدى القيادة السعوديّة الجديدة قد دقّ ناقوس الخطر في عددٍ من العواصم. ذلك أنّ الاطاحة بالحريري بشكلٍ كامل، كانت لتؤدّي إلى مجموعة من الإجراءات الّتي من شأنها أن تأتي على حساب استقرار البلاد. وفي حين تمثّل هدف السعوديّين بسحب الغطاء عن حزب الله، فقد رأت جهات أخرى ومنها فرنسا وألمانيا ومصر وحتّى وزارة الخارجيّة الأميركيّة في ذلك وصفةً لزعزعة الاستقرار. وعلى ضوء ذلك، نجحت فرنسا وبدعمٍ من مصر بإعادة التفاهم السياسيّ إلى ما كان عليه وإن بشكلٍ مؤقّت.
 
وفي حين أنّ عودة الحريري قد دحرت أزمةً سياسيّةً وشيكة، فهي لم تغيّر قواعد اللعبة بشكلٍ جذريّ. فسيادة لبنان لا زالت تحت سيطرة قوى خارجيّة. وقد سهّل القادة السياسيّون المحلّيون عودته، ولكنّ استقالته كما إعادته قد حدّدتهما بشكلٍ أساسيّ قوى أجنبيّة. ويبدو التلاقي بين حزب الله وعون بشأن الحريري جليًّا. ولكن لا يتضح كيف ستمضي البلاد قدمًا في ظلّ المطالب السعوديّة.
 
ويكمن السؤال الأساسيّ في مدى موافقة السعوديّين على تراجع الحريري عن استقالته. فالواضح أنّ الرياض قد بالغت في لعب ورقتها، ولكن لها أن تعتدّ بأنها قد زعزعت النظام لصالحها من منطلق أّنّها لو لم تدفع الحريري إلى الاستقالة لوقع لبنان بالكامل في أحضان إيران. فالحريري في نهاية المطاف، قد جعل من اعتماد سياسة "النأي بالنفس" شرطًا مسبقًا لعودته. وقد يكون السعوديّين يخطّطون أيضًا لتصعيد الوضع مع التركيز على إمكانيّة اللجوء إلى التدابير السياسيّة أو الاقتصاديّة. وفي هذه الحالة، ستستتبع مثل هذه الخطوات نتائج وخيمة بالنسبة إلى لبنان ككلّ والمنطقة بأسرها، في حين أنّ احتمال الحاق الضرر بحزب الله هو الأقلّ نسبيًّا.
 
وبينما تستمرّ التهديدات بتوجيه ضربةٍ عسكريّةٍ لحزب الله من قبل اسرائيل، لا تُعتبر مثل هذه الخطوة مرجّحة لأنّ من شأنها أن تشعل نزاعًا يتخطّى الحدود اللبنانيّة. ومن المحتمل أن تجد سوريا نفسها أيضًا في أرض المعركة لأسبابٍ ليس أقلّها انتشار مقاتلي حزب الله في ساحة القتال إلى جانب الحشد الشعبي العراقي. ويمكن للحوثيّين أيضًا أن يصعّدوا من هجوماتهم على الحدود الجنوبيّة للسعوديّة، فيشعلون بالتالي حربًا إقليميّة. وبعبارةٍ أخرى يمكن لمثل هذا النزاع أن يمتدّ إلى ما يتجاوز حدود لبنان فيؤدّي إلى مشاركة جهات غير لبنانيّة في الأعمال العسكريّة بشكلٍ مباشر.
 
وتتمثّل إحدى بدائل العمل العسكريّ بالحرب الاقتصاديّة الّتي يمكن أن تستهدف لبنان. صحيح أنّ الاستثمارات، والمنح، والواردات، والسياحة السعوديّة قد تراجعت على مدى السنوات الخمسة المنصرمة، غير أنّ العقوبات الاقتصاديّة قد تسبّب ضررًا أكبر بكثير على الاقتصاد الوطنيّ سيّما إنّ سارت بلدان التعاون الخليجيّ على هذا المنحى. ولا يودّي هذا العمل العقابيّ إلى حدّ النمو الاقتصاديّ للبنان وحسب، بل يؤثّر أيضًا على ثقة المستثمرين في البلد. ويمكن تفسير تصريح وزير الخارجيّة السعودي عادل بن أحمد الجبير، بأنّ "القطاع المصرفيّ في لبنان خاضع لسيطرة حزب الله" كتهديدٍ مبطّنٍ للقطاع الماليّ والنقديّ للبلد. وبالفعل يمكن للإجراءات ضدّ المصارف اللبنانيّة أن تزيد من كلفة الاستدانة بالنسبة إلى الحكومة فيصبح الإنفاق العام، المرتفع أصلًا، غير مستدام. إلى ذلك، وفي حال أدّى التهديد السعوديّ إلى تراجع في تحويلات المهاجرين الّتي تقدّر بما يقارب مليارين إلى 2.5 مليار دولار، فقد يترتبّ على ذلك أثار وخيمة على سلامة الاقتصاد الكلّيّ في البلاد بما يشمل العملة.
 
ولنكن واضحين، فحتّى الآن تبقى المسائل المطروحة أعلاه تكهّنيّةً بطبيعتها. غير أنّ هذا التمرين الوجيز يبيّن أنّه في حال تطبيق مثل هذه السياسات فهي ستؤدّي إلى إلحاق الضرر باللبنانيّين من جميع المذاهب ولا سيّما منهم الفقراء. وفي حال تراجع سعر صرف العملة سيتأثّر جميع الّذين يتلقّون أجورهم ويحتفظون بادخاراتهم بالليرة اللبنانيّة، بما في ذلك موظفي القطاع العام والأجهزة الأمنية. وقد يؤدّي ذلك حتّى إلى تقويض الدولة وقدرة القطاع الأمنيّ على أداء واجبه.
 
ولسخرية القدر أنّ هذا السيناريو المأساويّ سيؤدّي على الأرجح إلى خروج حزب الله بأضرار تقل عن تلك الّتي تلحق بباقي الجهات اللبنانيّة، لأنّه أقلّ اعتمادًا على الدولة للحصول على الخدمات العامة أو على وظائف في القطاع العام. فمن شأن المنظّمات الّتي تقدّم الخدمات للقواعد الشعبيّة لحزب الله أنّ تتمكّن من الصمود أمام الضغط أكثر من غيرها، كما قد تتمكّن أيضًا من توسيع نفوذها من خلال تقديم الخدمات خارج إطار الدولة.
  
وقد أتت آخر المحاولات للضغط على حزب الله بنتائج عكسيّة. ويمكن لمحاولات ممارسة ضغط اقتصاديّ أنّ تعزّز المجموعة نفسها الّتي يصبّ السعوديّون جلّ جهودهم لإضعافها. فلن يعود الدفع بالبلاد إلى الهاوية بأيّ مكاسب، بل على العكس، فمن شأن ذلك أن يفاقم التطرّف أو أن يؤدي إلى فوضى أو حتّى إلى تعزيز النفوذ الإيرانيّ في سراديب السلطة في بيروت.