December 18, 2018مقابلة مع السيد مروان مخايل: تحليل خبير بشأن الاستقرار الاقتصادي والمالي في لبنان
تكثر التكهنات في لبنان بشأن مستقبل الاقتصاد الوطني وقطاع المصارف وماليّة الدولة. وقد أجرى المركز اللبناني للدراسات، ضمن إطار جهوده الهادفة إلى تحفيز حوارٍ بنّاءٍ بشأن القضايا الوطنيّة الملحّة، سلسلةً من المقابلات مع اقتصاديّين لديهم وجهات نظر مختلفة بشأن مستقبل لبنان الاقتصاديّ، والضريبيّ، والماليّ. وفي هذا الإطار أجرينا مقابلة مع السيّد مروان مخايل، وهو رئيس قسم الأبحاث في بنك بلوم للاستثمار ش.م.ل. وهو يعتبر أنّ حالة التباطؤ الاقتصادية الأخيرة تختلف عن سابقاتها، إذ يبدو لبنان أقلّ قدرة على الصمود في وجه تفاقم التدهور الاقتصاديّ، وسوف يصعب على الحكومة المقبلة بل قد يتعذّر عليها أن تنفّذ سياسةً ماليّة توسّعية، كما أنّ المؤشّرات تشي بأنّ المستقبل القريب سيتمخّض عن مستوياتٍ من انكماش النمو.
طغت على الأخبار اللبنانيّة خلال الأشهر الأخيرة شائعات بشأن استدامة الاقتصاد الوطني. بماذا تختلف التحدّيات الاقتصاديّة الّتي يختبرها لبنان حاليًّا عن التحدّيات الماضية، إن لجهة العوامل الداخليّة أو الخارجيّة؟
يختلف التباطؤ الاقتصاديّ الّذي يشهده لبنان حاليًّا عن سوابقه، لأنّه قد دام أكثر بكثير من حالات التراجع الماضية، وهو يشكّل امتحانًا جدّيًا آخر لقدرة الاقتصاد اللبنانيّ على الصمود. وتتعدّد أسباب التباطؤ، وأوّلها تداعيات الحرب في سوريا المجاورة، ثمّ قرار بلدان مجلس التعاون الخليجي بتحذير رعاياها من القدوم إلى لبنان، وأخيرًا المشاكل الماليّة والقضايا الهيكليّة الّتي تخنق الاقتصاد.
ويختلف الوضع هذه المرّة لأنّ الصدمة لم تعرف أيّ حدود زمنيّة. فتبعات الحرب في سوريا تتوالى فصولاً، وما من خاتمة تلوح في الأفق للنزاع. وبالتالي، لا بدّ من أن تأتي السياسات الّتي تُعتمد للتصدّي لعامل عدم اليقين الكبير هذا مختلفةً. فلمّا اندلعت الحرب في سوريا لم يكن لبنان يتمتّع بالبنية التحتيّة الملائمة لجذب المستثمرين السوريّين. وقد أرغِم مالكو المصانع والشركات السوريّون الأثرياء على الفرار من بلدهم، وفضّلوا الاستثمار في بلدان أخرى عوضًا عن المجيء إلى لبنان. ولم تفلح المصارف سوى في جذب كميّةٍ محدودةٍ من الودائع، في حين اجتذب القطاع العقاريّ بعض الشراة.
ويختلف الوضع هذه المرّة لأنّ ديننا العام ومستويات عجزنا الماليّ لا تترك أيّ مجالٍ لمزيدٍ من التدهور. فالدين العام يبلغ 132% من إجمالي الناتج المحلّي، في حين بلغ العجز المالي 9.3% من إجمالي الناتج المحلّي في نهاية 2012. وبالتالي، لا تملك الحكومة ترف اعتماد سياسةٍ ماليّة توسّعيّة لتحفيز النمو الاقتصادي. في هذا السياق، تعجز الحكومة عن زيادة نفقاتها الرأسماليّة لتحسين بنيتها التحتيّة المتداعية بعد سنواتٍ عديدةٍ من الانفاق الرأسماليّ المقيّد.
ويختلف الوضع هذه المرّة لأنّ معدّلات الفائدة الدوليّة أخذت بالارتفاع. وعليه، اضطرّ لبنان أن يحذو حذوها، ولن يمرّ ذلك على خدمة الدين مرور الكرام. فارتفاع الدين العام سوف يتسارع، كما ستزداد نسبة الدين إلى إجمالي الناتج المحلّي. وإنّ لم تعالج الحكومة مشكلة العجز المالي قبل حدوث ذلك، فسوف يتدهور الوضع المالي ويؤثّر على الاقتصاد بأكمله.
على صعيدٍ آخر، تقيّد البنية التحتيّة المتهاوية امكانيّات نموّ إجمالي الناتج المحلّي الحقيقي. فبعد تسجيل نموٍّ مرتفع في إجمالي الناتج المحلّي لسنواتٍ عديدة، انتقل الاقتصاد الّلبناني خلال السنوات الستّة الماضية، من سرعة عالية إلى أخرى منخفضة من النمو الاقتصاديّ. وقد سجّل نمو اجمالي الناتج المحلّي الحقيقي 1% إلى 2% خلال السنوات الأخيرة الماضية، ولن يشكّل العام الجاري استثناءً. ويُعزى ذلك جزئيًّا إلى غياب الاستثمار في البنية التحتيّة خلال السنوات الّتي سُجّل فيها نموٌّ مرتفع. ويحتاج لبنان إلى الارتقاء ببنيته التحتيّة في جميع القطاعات، بما في ذلك الطاقة، والمياه، والطرقات، والنقل، وتكنولوجيا المعلومات، والاتصالات. وبما أنّ الحكومة تفتقر إلى الوسائل الّلازمة للقيام بالاستثمارات الضروريّة كافةً، يمكن التفكير بعددٍ من المخطّطات، من قبيل الشراكات بين القطاعين العام والخاص، ونهج البناء والتشغيل ونقل الملكيّة، والخصخصة، من بين جملة أمورٍ أخرى.
ويرتبط هذا المناخ من معدّلات الفائدة المرتفعة الّذي يهيمن على الاقتصاد اليوم ويؤدّي إلى مزاحمة القطاع الخاص مع تصاعد تكاليف الاستدانة بعددٍ من العوامل الخارجيّة الّتي تشمل الارتفاع المسجّل في الفوائد الأميركيّة عام 2018، وتزايد معدّلات الفائدة في الاقتصادات الناشئة منذ مطلع السنة، إضافةً إلى ارتفاع معدّلات الفائدة في البلدان النظيرة في المنطقة مثل تركيا ومصر، كما في بلدان الخليج وإن بدرجةٍ أقلّ. واضطر لبنان إلى الالتحاق بقطار زيادة معدّلات الفائدة للاستمرار بجذب الودائع.
وعلى الصعيد الداخليّ أيضًا، وفي ظلّ تقاعس الحكومة عن اعتماد أيّ سياسةٍ ماليّة ناشطة وجذّابة، شرع مصرف لبنان في الاستعانة بأدوات ماليّة غير تقليديّة لحماية ربط العملة والاستقرار الماليّ ما أدّى إلى ارتفاعٍ في معدّلات الفائدة.
كذلك، تُعزى الضغوطات التضخميّة في لبنان اليوم بشكلٍ جزئي إلى ارتفاع متوسّط سعر النفط الدولي، الّذي قفز بحلول شهر آب 2018 إلى 72 دولار للبرميل، كما إلى التراجع في مؤشّر الدولار الأميركي الّذي أدّى إلى غلاء السلع اللبنانيّة المستوردة المسعّرة بالدولار. إلى ذلك، توجد عوامل داخليّة أخرى مؤثّرة اليوم، ولاسيّما منها تمرير مشروع قانون سلسلة الرتب والرواتب للقطاع العام الّذي طال انتظاره، والّذي يعد بزيادةٍ في الأجور. ويُتوقّع أن تفوق التكاليف المقدّرة لزيادة الرواتب هذه مبلغ الـ 800 مليون دولار الملحوظ في الموازنة، في حين ازدادت تكاليف خدمات التعليم الخاص أيضًا.
ولا ينحصر التباطؤ هذه السنة بلبنان وحسب، بل يشمل المنطقة ككل، ذلك أنّ الاقتصادات النظيرة الأساسيّة التي يعوّل عليها لبنان (دول الخليج العربي على وجه الخصوص) لتلّقي تحويلات المهاجرين، وتوفير فرص عمل للشباب، كما لتأمين إنفاق السوّاح والاستثمارات العقاريّة في لبنان، جميعها تعاني أيضًا من التباطؤ الاقتصادي. ويُحبط هذا الشلل الاقليميّ قدرة لبنان على التعافي ويطيل المدّة اللازمة لتحقيق ذلك.
لقد اهتزّت ثقة المستثمرين الأجانب للمرّة الأولى وبقوّة عام 2018، في حين لم تُظهر الحكومة أي بوادر لإجراء الاصلاحات لتضييق العجوزات أو للحدّ من نسبة الدين إلى إجمالي الناتج المحلّي. وبذلك، سوف يتطلّب ترميم الثقة في الاقتصاد هذه السنة أكثر من مجرّد انفراجات سياسيّة من قبيل تشكيل الحكومة، بل إنّه يستدعي إنجازاتٍ إقتصاديّة.
ما هي المتغيّرات الاقتصاديّة الأساسيّة الثلاثة الّتي تستعين بها لتحديد أزمة في لبنان، وما هي المؤشرات الّتي تستخدمها لقياس هذه المتغيّرات؟
دعونا نشير أوّلًا إلى وجود أربعة قطاعات مختلفة في الاقتصاد، وهي تحديدًا القطاع الحقيقي، والقطاع المالي، والقطاع الخارجي، والقطاع النقدي. وتتركّز الصعوبات الّتي نعانيها حاليًّا بشكل أساسي في القطاع الاقتصاديّ والقطاع الماليّ، كما في القطاع الخارجيّ إلى حدٍّ معيّن، ما يؤدّي إلى بعض الضغوطات على القطاع النقدي.
ويدلّ أوّل المؤشرات في الاقتصاد الحقيقي إلى الاقتراب من مستويات الكساد في النمو الاقتصادي. ويبيّن مؤشّر مديري المشتريات الصادر عن بنك لبنان والمهجر أنّ النمو الاقتصاديّ قد سجّل نحو 1.2% عام 2017 وهو لن يتخطّى الـ1% خلال السنة الجارية. وفي بلدٍ نامٍ مثل لبنان، يُعتبر ذلك انكماشًا في مستوى النمو، إذ أنّه قلّما سيؤدّي إلى استحداث فرص عملٍ جديدة مقارنةً بعدد الشباب الّذين يدخلون سوق العمل كلّ سنة. إضافةً إلى ذلك، تؤدّي مستويات الفائدة المرتفعة إلى مزاحمة القطاع الخاص، كما تفاقم التباطؤ الاقتصاديّ. ويشكّل امتداد فترة تدنّي النمو مؤشّرًا لوجود صعوباتٍ اقتصاديّة.
ويتمثّل أحد العوامل الأخرى بميزان المدفوعات، الّذي سجّل قيمًا سالبة خلال السنوات السبع الماضية، ما خلا عام 2016، وذلك نظرًا لمخطّط الهندسة الماليّة الّذي اعتمده المصرف المركزي. ويُعَدُّ استمرار القيم السالبة لميزان المدفوعات أيضًا مؤشّرًا لوجود مصاعب اقتصاديّة، إذ يتعذّر على لبنان اجتذاب التدفّقات الماليّة اللازمة لتغطية العجز الحالي الّذي يسجّله.
أمّا أداء سوق السندات- الّذي يُشار إليه بالتراجع الكبير في مؤشّر بنك لبنان والمهجر للسندات الماليّة المقرون بالقفزة الّتي سجّلها المتوسّط المرجّح ذات الصلة لعائد سندات اليورو- فيُعدّ أيضًا من علامات الضغط الّذي يعاني منه الاقتصاد.
لا تنفكّ المنظمات الماليّة الدوليّة تعرب عن قلقها إزاء استدامة الوضع الاقتصادي في لبنان. فطالما أنّ هذه الشواغل لا توضّح للجهات السياسيّة في لبنان ضرورة الإصلاح، هل من نقطة تحوّل يمكن أن تسهّل التعاون السياسيّ في مجال الإصلاحات الضروريّة؟
أشارت المنظمات الماليّة الدوليّة بحقٍّ إلى عدم استدامة الوضع الاقتصادي والمالي الحالي. وأعتقد أنّنا قد وصلنا إلى نقطة التحوّل الّتي سوف تسهّل التعاون السياسيّ، إذ أنّ محيطنا الاقتصاديّ يتّسم بالصعوبة، فإن تقاعست السلطات عن تنفيذ الاصلاحات، لن تصلنا أموال سيدر الموعودة، وسوف يستمرّ الوضع الاقتصاديّ في التدهور.
إلى أي مدى يختلف تأثير الأزمة باختلاف الفئات الاجتماعيّة والمجتمعات؟
حاليًّا، تحدّ الضغوطات التضخميّة من القدرة الشرائيّة للناس، بما يؤدّي إلى زيادة تكاليف التعليم، والإسكان، والصحة، والغذاء، من بين جملة أمورٍ أخرى. ذلك أنّ ارتفاع معدّلات الفائدة يثني الشركات الخاصّة عن توسيع عمليّاتها، ما يشلّ الدورات التجاريّة الضروريّة لتحفيز النمو الاقتصادي.
وفي حال وقوع أزمة، سوف تتعاظم هذه الآثار، ما يؤدّي إلى تراجع الإيرادات الحكوميّة، وارتفاع النفقات العامّة، ما سيستتبع ازديادًا في الدين العام كما في نسبة الدين إلى إجمالي الناتج المحلّي.
ما هي التوصيات الثلاثة الأساسيّة في مجال السياسات الّتي تقدّمها للحكومة العتيدة؟
اصلاح الخدمات الكهربائيّة، ولا سيّما تحويلات مؤسّسة كهرباء لبنان، الّتي تشكّل نحو 20% من النفقات ويمكن أن تساعد على ادّخار 2.5% - 3% من اجمالي الناتج المحلّي (نحو 1.5 مليار دولار) إن نُفِّذَ الاصلاح بالطريقة المؤاتية.
تحسين سهولة مزاولة الاعمال التجاريّة في لبنان، بدءًا من إصلاح القانون التجاري، مرورًا بانفاذ حكم القانون، ما يؤدّي إلى تحفيز الحوكمة الرشيدة في الممارسسات التجاريّة.
تسريع تنفيذ برنامج الاستثمار الرأسماليّ من خلال الشراكات بين القطاعين العام والخاص.
ما سيكون دور الجهات الدوليّة، الدول كما المنظمات الدوليّة، في الحدّ من الأزمات، وبموجب أيّ شروط؟
يمكن أن يضطلع المجتمع الدولي المعني ببرنامج الاستثمار الرأسماليّ، بما يشمل العواصم الأوروبيّة، بالإشراف على تقدّم الاصلاحات في لبنان وأن يحرص على أن تبصر المشاريع المخطّط لها النور.