December 04, 2018مقابلة مع الدكتور كمال حمدان: تحليل خبير بشأن الاستقرار الاقتصادي والمالي في لبنان
تنتشر التكهنات في جميع أنحاء لبنان حول مستقبل الاقتصاد الوطني والقطاع المصرفي ومالية الدولة. كجزء من جهوده لتشجيع الحوار البنّاء حول القضايا الوطنية الملّحة، أجرى المركز اللبناني للدراسات سلسلة من المقابلات مع اقتصاديين لديهم وجهات نظر مختلفة حول مستقبل لبنان الاقتصادي والمالي والضريبي. في هذا الإطار أجرينا مقابلة مع الخبير الاقتصادي والمدير التنفيذي لمؤسسة البحوث والاستشارات الدكتور كمال حمدان، حيث قال بأن المؤشرات الاحصائية التي تفيد بعدم قابلية الأوضاع الاقتصادية اللبنانية للاستدامة تتزايد. وهو يوصي الحكومة الجديدة بضرورة الاستثمار في إصلاح وتطوير المرفق العام، ومعالجة الضعف الاستثنائي وغير المسبوق في انتاجية الانفاق العام وإعادة هندسة خصائص النظام الضريبي.
في الأشهر الأخيرة، هيمنت على الأخبار شائعات حول استدامة الوضع الاقتصادي في البلاد. كيف تختلف التحديات الاقتصادية التي يواجهها لبنان اليوم عن تحديات الماضي، من حيث العوامل الداخلية والخارجية؟
تتزايد المؤشرات الاحصائية التي تفيد بعدم قابلية الأوضاع الاقتصادية اللبنانية للاستدامة، إذا ما استمرّت اتجاهات التطور الاقتصادي خاضعة لمنحاها الراهن. ومع استمرار تراجع معدلات نمو ودائع القطاع المصرفي، تتوطّد القناعة بأن ما يدخل إلى البلد من عملات صعبة سنوياً – عبر صادرات السلع والخدمات وتدفقات التحويلات الخارجية والاستثمارات الأجنبية المباشرة والحركة الصافية لرؤوس الأموال – لم يعد يكفي لتلبية احتياجات القطاعين العام والخاص من هذه العملات. ويطرح هذا الواقع تساؤلات مشروعة حول مدى قدرة البلد على المضيّ في سياسة التثبيت النقدي المتواصلة منذ أواسط التسعينيات، والتي كانت قد فرضتها موجات متلاحقة من التضخم الفالت وتردّي أسعار صرف العملة الوطنية.
إن التحديات الاقتصادية التي يواجهها لبنان راهناً باتت تختلف بشكل جذري عمّا سبقها من تحدّيات، بحسب ما تشير إليه العوامل الأساسية التالية: أولاً، تعاظم الخلل البنيوي في أداء النظام السياسي اللبناني الطائفي و"طبقته السياسية" التي انغلقت أكثر فأكثر على مفهوم ماضوي ومتخلّف لمقولة "التوازن الطائفي"، ثم جنحت مواقفها منذ بداية الألفية نحو سمات مذهبية أكثر تخلّفاً، مما عزّز طغيان التحاصص والعلاقات الزبائنية على حساب مبادىء المواطنة، وأعاق بناء الدولة وتحديث وظائفها واستهدافاتها؛ ثانياً، انعكاس حقبة "الربيع العربي" (أو بالأحرى الخريف العربي) وما رافقها من حروب أهلية متنقلة ومن تفاقم تداعيات الصراع السعودي - الإيراني، في تغييرات كبيرة طالت خصائص المحيط العربي والاقليمي وأولوياته، وحوّلته الى حاضنة غير مؤاتية لنمو الاقتصاد اللبناني في الحقول التي تغطي عملية تبادل السلع والخدمات والاستثمارات ورؤوس الأموال واليد العاملة؛ ثالثاً، بروز تحوّلات أساسية في المعطى الدولي، مع ازدياد نفوذ الحركات السياسية الشعبوية والمحافظة وبخاصة إثر وصول الرئيس ترامب إلى سدّة الرئاسة الأميركية، حيث تراجعت مساحة الحوار والاعتدال والتوازن في العلاقات السياسية والاقتصادية الدولية، وغلبت لغة المجابهة والعسكرة وتعميم العقوبات والتراجع عن الاتفاقات الدولية وإعادة إشعال فتيل السياسات التجارية الحمائية.
ما هي المتغيرات الاقتصادية الثلاث الرئيسية التي من خلالها يمكنك تحديد وجود أزمة في لبنان اليوم، واستناداً إلى أي مؤشرات يمكن قياسها؟
في المحصلة العامة، يستمر استقرار معدلات النمو الاقتصادي على مستويات شديدة الانخفاض تقلّ عن سدس معدل النمو السنوي الوسطي المحقّق بين عام 2007 وعام 2010، وعن نصف المعدل السنوي المسجّل منذ عام 1993. ويبرز أهمّ المتغيرات الاقتصادية المعبّرة عن أزمة لبنان اليوم، كالآتي: أوّلاً، استمرار المنحى الصاعد في نسبة العجز المالي (مع تسجيل تفاقم إضافي في النصف الأول من عام 2018)، وتراجع قدرة المصارف على تمويل هذا العجز الإضافي بسبب انخفاض معدل نمو الودائع المصرفية وتزايد انكشاف المصارف إزّاء القروض العقارية والسكنية، الأمر الذي أدّى إلى ارتفاع معدلات الفائدة وتفاقم كلفة خدمة الدين العام ونسبة الدين إلى الناتج المحلي؛ ثانياً، ارتفاع الخلل في كافة حسابات لبنان الخارجية، بحسب ما تعبّر عنه العجوزات التراكمية القياسية خصوصاً في ميزان المدفوعات (للسنة السابعة على التوالي) وكذلك في الحساب الجاري والميزان التجاري، وانسحاب هذه العجوزات سلباً على تقييم المخاطر السيادية التي تطال بشكل عضوي وفي الوقت ذاته كلّاً من الدولة والقطاع المصرفي؛ ثالثاً، القدرة المتواضعة لمؤسسات القطاع الخاص على خلق فرص عمل – لا سيما فرص عمل لائقة – في وقت تستمرّ التخمة في عرض العمل حيث يقدّر عدد خريجي الجامعات سنوياً بنحو 37 ألف خريج، ويضاف إليهم بضعة عشر ألفاً من خريجي التعليم المهني النظامي وغير النظامي، ناهيك عن ألوف العاملين الذين فقدوا أعمالهم بفعل منافسة اليد العاملة غير اللبنانية الرخيصة.
أعربت المنظمات المالية الدولية مراراً عن قلقها بشأن استدامة الحالة الاقتصادية في لبنان. إذا لم تكن هذه المخاوف كافية للحث على الشعور بضرورة الإصلاح في أذهان الجهات السياسية الفاعلة، فهل ستكون هناك نقطة تحول يمكن أن تسهّل التعاون السياسي بشأن الإصلاح الضروري؟
إن أكثر ما يعاني منه اللبنانيون في علاقتهم الملتبسة مع أطراف السلطة يكمن في أن هؤلاء لا يعيرون أيّ اهتمام لعامل الوقت أو الزمن، وما يترتّب عنه من منافع اقتصادية ومالية إذا ما أحسن استخدامه أو من تكاليف باهظة في حال حصول العكس. ولعل أبرز مثال على ذلك، هو ما خبره اللبنانيون في موضوع الكهرباء، حيث لم تنفك الحكومات المتعاقبة تدّعي منذ أكثر من عقدين عن جهوزية مشاريع تطوير هذا المرفق من دون أن يحصل أيّ تقدم فعلي في هذا المجال، مع العلم أن الدعم الرسمي لهذا القطاع يشكّل – وحده – نحو 40% من قيمة العجوزات السنوية المراكمة في موازنات الدولة.
وفي ظل عدم اقتران نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة ببروز تيّار مدني ديمقراطي إصلاحي وغير طائفي يحتل موقعاً مقرّراً داخل السلطة ويتولى تنفيذ الاصلاحات، فإن نقطة التحوّل التي يمكن أن تحصل بين أطراف الحكم - وتسهّل الشروع في هذه الإصلاحات - تبقى مرهونة نظرياً بواحدة أو أكثر من الفرضيات التالية: أن يبرز من داخل نظام "التوازن الطائفي" طرف إصلاحي مهيمن يكسر المعادلات الفوقية المتوارثة ويلعب دور "المستبدّ العادل" في محاكاة للتجربة الشهابية في الستينيات؛ أو أن تتزايد بصورة داهمة احتمالات سيناريو الانهيار المالي والاقتصادي، فتنشأ إذّاك تحت الضغط الشعبي صدمة داخلية تحتّم قيام كتلة إصلاحية مختلطة من داخل أطراف السلطة لتتولى الشروع في تنفيذ الاصلاحات؛ أو أن تحصل انفراجات أمنية وسياسية في الوضعين العربي والاقليمي، فتنعكس تحسنّاً في المناخ العام السياسي الداخلي وفي الفرص الاقتصادية المتاحة عربياً واقليمياً أمام لبنان، مع العلم أن تعظيم حجم المنافع المرتقبة قد يفرض على الطرف اللبناني الالتزام بتنفيذ بعض الاصلاحات.
إلى أي مدى قد يؤثر حدوث أزمة على المجتمعات والجماعات الاجتماعية بشكل مختلف؟
شهد لبنان خلال الثمانينيات وأوائل التسعينيات انهيارات نقدية ومالية متعاقبة بالتزامن مع موجات عاتية من التضخم الفالت (
Hyperinflation)، حيث ارتفع سعر صرف الدولار تجاه الليرة اللبنانية نحو ألف ضعف ووصل المعدّل الوسطي للتضخم إلى 110% سنوياً بين عام 1984 وعام 1994 (بحسب مؤشّر الأسعار الصادر عن مؤسسة البحوث والاستشارات). ومع استعادة الدروس المستخلصة من هذه التجارب، يمكننا ترقّب خارطة الفئات الاجتماعية الأكثر تضرّراً من أيّ انفجار محتمل للأزمة الاقتصادية، كالآتي: أوّلاً، انهيار القوة الشرائية للأجراء في القطاعين العام والخاص (نحو 60% من إجمالي القوى العاملة)، وبنسبة أكبر للأعداد المتزايدة من الأجراء غير النظاميين؛ ثانياً، تبخّر جزء أساسي من القيمة الفعلية لإدخارات الأجراء المتراكمة (بالعملة اللبنانية) في فرع تعويضات نهاية الخدمة التابع للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، كونها محرّرة بالليرة اللبنانية ويجري استثمار غالبيتها في سندات الخزينة؛ ثالثاً، إزدياد استقطاب الفئات العليا من أصحاب العمل للفئات المتوسطة والدنيا، كنتيجة لتزايد سيطرة الاتجاهات الاحتكارية على بنية الأسواق المحلية، بحسب ما تؤكده نتائج العديد من الدراسات. وهذه التداعيات سوف تفاقم مظاهر عدم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي (وبالتالي السياسي) في البلد.
ما هي التوصيات السياساتية الثلاثة الأهم التي تعطيها للحكومة الجديدة؟
إذا افترضنا أن الإرادة السياسية باتت متوافرة لمعالجة الأزمة – وهذه مسألة تحتاج إلى نقاش طويل – فإنه يمكن تصوّر التوصيات السياساتية الأهمّ التي ينبغي على الحكومة الجديدة أن تضعها موضع التنفيذ، كالآتي: أولاً، الاستثمار الحكومي في إصلاح وتطوير المرفق العام والخدمات العامة الأساسية، كشرط موجب لتعزيز النمو والنشاطات الاقتصادية ذات القيمة المضافة العالية؛ ثانياً، إعادة هندسة خصائص النظام الضريبي في اتجاه يحقّق قدرا أكبر من الفعالية والعدالة، في بلد يتميّز بأعلى مستويات التركّز قي الثروة والدخل، بحسب ما تظهره المقارنات الدولية؛ ثالثاً، الإنكباب على معالجة الضعف الاستثنائي وغير المسبوق في انتاجية الانفاق العام، وما يتضمنه من تفشّي مزاريب الهدر والفساد ذات الصلة بالطبيعة الطائفية للنظام السياسي وانعدام الحوكمة.
ما هو دور الأطراف الدولية الفاعلة، سواء الدول أو المنظمات الدولية، في تخفيف الأزمة، وفي أي ظروف؟
إن دور الأطراف الدولية الفاعلة - دولاً ومنظمات دولية - قد ظهر في كثير من الأحيان كأنه محاولة لملء الفراغ الناجم عن عدم امتلاك النخب اللبنانية الحاكمة لرؤى انمائية صلبة وبعيدة المدى، أو عن عدم قدرتها على وضع مثل هذه الرؤى - إن وجدت - موضع التنفيذ. وقد اقتصر الدور الدولي في أكثر الحالات على محاولة مساعدة لبنان في إدارة أزمته، من دون أن ينجح فعلاً في صنع حلول ناجعة. وهذا ما يمكن استنتاجه مما آلت اليه النتائج العملية للمؤتمرات الدولية المتعاقبة التي انعقدت بهدف دعم لبنان منذ بداية الألفية الثالثة. وكي يتوصّل لبنان إلى تعظيم استفادته من الدعم الدولي، فإنه مطالب في المقام الأوّل ببلورة "مشروعه الوطني" الخاص وبتعبئة موارده وقدراته الذاتية للتمكّن من تنفيذ هذا المشروع (مع الأخذ في الاعتبار أن لكلّ من الدول والمنظمات الداعمة أجنداتها الخاصة).