August 19, 2020إعادة الإعمار في غياب الدولة: دور المهندسين والنقابةمقابلة مع المهندس جاد تابت، نقيب المهندسين في بيروت.
خلّف انفجار مرفأ بيروت الذي حصل في الرابع من آب 2020 مئات الضحايا، وآلاف الجرحى والمشرّدين. الأضرار المادّية أيضاً هائلة، فالمحصّلة عشرات المباني المنهارة بالكامل وأكثر من 6000 مبنى متضرّر في الأحياء القريبة من المرفأ والتي تتوزّع عقارياً بين مناطق المدوّر، الصيفي، الرّميل، الأشرفية والمرفأ.
في ظل غياب دولة ومؤسسات تتمكّن من توفير أدنى المقوّمات لخطة إنقاذ تساوي حجم الكارثة، تواجد المهندسون على الأرض، كما المجموعات التطوّعية منذ اليوم الأول. ولكن على المهندسين مسؤولية أكبر باستيعاب هذه الكارثة بحيث لديهم الخبرات المطلوبة إن كان من ناحية الحفاظ على الأبنية والأحياء التراثية، أو الدراسات والمعاينات الإنشائية وغيرها.
نوجّه بعض الأسئلة إلى جاد تابت المعمار الذي واكب وناضل في فترة إعادة الإعمار في بيروت في التسعينات ولكن أيضاً إلى تابت نقيب المهندسين في مرحلة من أصعب المراحل التاريخية التي يمرّ فيها لبنان:
1. في تقييم أولي قمتم به، تبيّن أن عدد الوحدات المتضرّرة قاربت ال 200.000 وحدة، ومنها مساكن غير قابلة للسكن. وهنا يبرز ثلاث أولويات:
أولًا، في هذه الأحياء العديد من المستأجرين القدامى الذين سوف يواجهون قذف مسؤولية الترميم بين المالكين والهيئة العليا للإغاثة، وهؤلاء مهددون بالإخلاء اليوم. ثانياً، الأبنية التراثية القليلة المتبقية والتي نجت من دمار الحرب ومن دمار إعادة الإعمار ومن دمار المشاريع العقارية قليلة جدّاً ولكن هي التي تشكّل آخر ما تبقّى من نسيج عمراني تاريخي في بيروت. معظم المالكين أيضاً لا يملكون الموارد الكافية للترميم والسّماسرة بدأوا التجوّل في الأحياء يقدّمون عروض الشراء. كيف نرممّها ونحافظ عليها اليوم، ليس فقط بحجارتها، إنما أيضاً بكل ما تحمل من ذاكرة وتنوّع اجتماعي؟ ثالثًا، وماذا عن الأبنية التي كانت شاغرة قبل الإنفجار؟ من يحميها من الهدم اليوم نظراً لتفتت الملكية وغياب المالكين؟
هناك الكثير من التداخل بين موضوع الأبنية التراثية وقضية الملكية والسّكان القدامى في المنطقة والوضع الإجتماعي لصغار المالكين والمستأجرين، بحيث أن هناك أبنية تراثية شاغرة وأخرى فيها مستأجرين قدامى وأخرى تحوّلت إلى مطاعم.
مجموع المباني في المنطقة الأكثر تضرّراً يقارب ستة ألاف مبنى بينها أكثر من ستماية مبنى تراثي قسم كبير منها متضرّر بنسب متفاوتة ولكن كلّها قابلة للترميم. وقد أظهر المسح الأولي أن أكثر من خمسين مبنى تراثي يواجه خطر انهيار لكامل المبنى وهناك عدد أكبر يواجه خطر انهيار لأجزاء منها. وأستبعد أن يكون هناك إمكانية لإجراء عمليات ترميم كاملة على نطاق واسع في المستقبل القريب بسبب تعذّر التمويل. من هنا، يجب إجراء عمليات تدعيم مع تدابير للحفاظ على المباني التراثية بانتظار الترميم الكامل.
إنّ محافظ مدينة بيروت أظهر نيّة جدّية في الحفاظ على الأبنية التراثية ووعد بإصدار قرار يلزم المالك في حال هدم أي مبنى تراثي إعادة بنائه كما كان للحدّ من أعمال الهدم العشوائي. كما أعطى مهلة 24 ساعة للمالكين للبدء بالتدعيم، قبل أن يتدخّل جهاز البلدية للعمل بذلك في حال عدم تجاوب المالك. أعمال التدعيم هذه سوف تكون مبنيّة على اقتراحات تقدّمها نقابة المهندسين بالتنسيق مع المديرية العامة للآثار ليتمّ التدعيم من قبل البلدية.
من جهة أخرى، بعض المباني هجرها السّكان بسبب الإنفجار ولكن تأهيلها بسيط. وبالتالي هناك أولوية اليوم لإصلاح وتأهيل الوحدات السكنية فيها بأسرع وقت ممكن لكي يعود إليها السّكان ولا تبقى الأحياء شاغرة. التحدّي الأكبر هو للأسر التي لا تستطيع تحمّل كلفة الأعمال قبل أن يتم صرف التعويضات من قِبل الهيئة العليا للإغاثة. وموضوع المستأجرين القدامى يقلقني جداً، فبعض المالكين يرفضون الترميم على نفقتهم، وبعضهم أيضاً لا يستطيع تحمّل الكلفة. ولا بد من اتّخاذ كافة التدابير التي تؤمّن الحفاظ على النسيج الاجتماعي للأحياء.
أيضاً، فإنّ معدّلات الاستثمار للبناء مرتفعة جدًّا في المنطقة وهذا يعزّز المضاربات فمعدّلات الاستثمار هي التي تُحدّد "قيمة" الأراضي اليوم في ظل القوانين السائدة. ويعود تصنيف مدينة بيروت للخمسينات من القرن الماضي حين صنّفت المناطق بشكل دائري تنخفض فيه الاستثمارات كلّما ابتعدنا عن الوسط. الأحياء المتضرّرة تقع أغلبها في مناطق فيها معدّلات استثمار مرتفعة جداً. من الصّعب في بيروت وحتى في هذا الظرف تخفيض عوامل الاستثمار نظراً لمعارضة المالكين العقاريين.
لذلك، طلبت من المجلس الأعلى للتنظيم المدني وبلدية بيروت وضع كل المنطقة تحت الدرس لمدة سنة بهدف تجميد المضاربات العقارية ومراقبة رخص البناء الجديدة بانتظار وضع دراسة شاملة للتنظيم المدني تسمح بالحفاظ على النسيج العمراني للأحياء وتحسين المشهد المديني. يمكن مثلاً تحديد ارتفاع أقصى للبناء مع الإبقاء على معدّلات الاستثمار. يمكن أيضاً نقل عوامل الاستثمار من الحي التراثي الى الكارنتينا والمدوّر مثلاً. من السّهل أيضاً إضافة طابق على الأبنية مع الحفاظ على طابعها المعماري وهنا التّقنيّات المتاحة لذلك متعدّدة مثل تراجع الطابق الأخير مع المحافظة على المبنى كما هو.
تبقى اليوم التدخّلات على مستوى الأبنية المنفردة وليس على مستوى النسيج العمراني ككلّ. لكن يوجد مخطّط تم إعداده منذ عشر سنوات من قِبل بلدية بيروت بدعم من منطقة إيل دو فرانس لمعالجة المساحات العامة من شوارع وساحات وحدائق على مستوى مدينة بيروت ككل. انطلاقاً من هذا المخطط يمكن التفكير بتطوير مشاريع على مستوى الحي من خلال تنظيم مسابقات أفكار وورش عمل مع الجامعات والاتحاد العالمي للمهندسين المعماريين. يمكننا التفكير بأربعة أحياء مثيرة للاهتمام لهكذا تدخّلات مدينية: حديقة فؤاد بطرس ومحيط الحكمة، الكرنتينا-المدوّر، محطة القطار في مار مخايل، ومنطقة الصيفي بين شارع باستور وجسر شارل حلو حيث الأبنية القديمة مع فراغات متروكة حولها. وينبغي أيضاً التفكير بسكن ميسّر للحفاظ على التنوّع الاجتماعي في الأحياء.
2. كيف ترى دور مجلس الإنماء والإعمار ومؤسسات الدولة الأخرى كالتنظيم المدني والبلدية - واقعياً- اليوم؟ هل يتغيّر المسار من الداخل؟ هل يمكن اليوم البناء على العلاقات مع بعض الفاعلين والمحاربين من الداخل؟
باختصار: لا مؤسسات قادرة للإحاطة بحجم الكارثة مع الأسف.
لقد أمضيت الأسبوع الفائت أحاول تنظيم الجهود بين نقابة المهندسين والمجلس البلدي في بيروت، والمحافظ والجيش والهيئة العليا للإغاثة ووزارة الثقافة والمجلس الأعلى للتنظيم المدني بالإضافة الى كليات الهندسة والعمارة. وقد توصّلنا بالنتيجة إلى آلية للتنسيق لا بأس بها وأتمنى أن يكون التطبيق جيّد أيضاً.
مثلاً، في ما يخصّ المسح، و منذ اليوم الأول، استدعى المجلس البلدي شركات دار الهندسة ولاسيكو ورفيق خوري للقيام بمسح الأضرار. أمّا الهيئة العليا للإغاثة فاستدعت شركة خطيب وعلمي للقيام بهذا العمل. كما بادر عدد من الجمعيات الأهلية والمنظمات غير الحكومية الى إجراء مسح للأضرار في بعض الأحياء.
في ظل هذه الفوضى، دعيت الأفرقاء إلى النقابة وشكّلنا لجنة تنسيق في السابع من آب. ومن بعد أن تمّ إعلان حالة الطوارئ وتسلّم الجيش المسؤولية، تواصلنا مع كافة الفرقاء واجتمعنا وأصرّينا على ضرورة توحيد المعلومات وربطها برقم العقار وتجميعها لدى الجيش والبلدية. وسوف ننهي المسح الكامل للأضرار المتعلقة بالسلامة العامة الذي بدأناه في النقابة لضمان إبقاء المعلومات ميوّمة ودقيقة لدينا على خريطة (
GIS) متاحة للجميع فلا نواجه مشكلة "ملكية" المعلومات من قِبل الشركات الخاصة. وقد تقدم ما يزيد عن ثلاثة ماية مهندس من مختلف الاختصاصات بخدماتهم بشكل تطوّعي لإجراء هذا المسح. وفّرنا أيضاً خط ساخن للمواطنين الذين يحتاجون إلى تقييم هندسي إنشائي طارئ. وأعلم أيضاً أن الجامعة الأميركية في بيروت والجيش وفّروا هذه الخدمة.
المسؤولية الكبرى في إنجاح ما نظّمناه تقع على بلدية بيروت. وأهم ما يمكن أن نساهم به كنقابة في المدى القصير هو إنهاء المسح المتعلق بالسلامة العامة والتنسيق مع مديرية الآثار لتوفير دراسات التدعيم. وما يقلقني هو أنّه إذا لم تُجرَ عمليات الترميم بسرعة سوف يبحث المستأجرون عن مكان آخر للسكن وسوف تُهمل المباني، خاصّةً في ظل الوضع الاقتصادي الصّعب. عدد كبير من الجهات مستعدّ للتبرّع خارج قنوات الدولة ولكن فقط لجهات/جمعيات نظامية مح حسابات واضحة وتدقيق مالي شفاف. لذلك أسعى مع نقابة المحامين ونقابة المقاولين ونقابة المحاسبين وجمعية الصناعيين اللبنانيين الى تشكيل هيئة لإدارة وتشبيك الجهات المانحة مع الجمعيات، ويكون لها دور رقابي تنظيمي فقط. أتمنّى أن يؤدّي هذا الجهد التنظيمي إلى نتائج عمليّة على الأرض سريعاً.
3. كيف يختلف المشهد اليوم عن بداية التسعينات؟ كيف نتجنّب سوليدير ثانية؟ هل يمكن أن توفّر الأزمة الاقتصادية فرصة لتفادي فورة عقارية أخرى في إعادة الإعمار علماً أن هذه الفورة وبالرغم من الأزمات المتتالية لم تهدأ بعد؟
في التسعينات كان هناك رهانات عديدة وأموال كثيرة هي التي أنتجت "سوليدير": مجموعة من رجال الأعمال والسياسيين ومعهم أموال من الخليج كلها اجتمعت على مشروع اقتصادي مالي مرتبط برهان السّلام في المنطقة. وبالتالي إعادة الإعمار كانت مشروعاً سياسياً لتصوّر دور لبنان وبيروت في المنطقة.
اليوم، لا سلام، ولا أموال ولا ثقة. لبنان بلد مفلس، المجتمع الدولي فقد الثقة، والسلطة السياسية فاشلة. وبالتالي لن يحدث مشروع بحجم "سوليدير". إن استمرار ارتفاع أسعار الشقق والأراضي ناتج فقط عن أزمة الدولار، بحيث زادت معاملات الشراء مقابل الشيكات المصرفية. لكن هذا أمده محدود ولا يُنتج مشروع إعمار جديد في المستقبل القريب. التدخّل اليوم بعد الكارثة يأخذ شكل مشاريع صغيرة على مستوى السماسرة المحليّين إذا صحّ التعبير، دون وجود مشروع سياسي اقتصادي أوسع للبلد. طبعاً، هذه ال"مافيا" المحلية خطيرة أيضاً، وإن بدرجة متفاوتة، و سوف تعزّز المضاربات المحلّية في المستقبل، ولكن لا تشبه "سوليدير" – ولا تساويها بالحجم.