هل ينبغي أن يمتنع لبنان عن تسديد ديونه؟ إعادة الهيكلة مسألة معقدة ومحفوفة بالمخاطر، لكنها ضرورية بشرط أن تقترن بالحوافز والقيود المناسبة نسرين سلطي، أستاذة في قسم الاقتصاد في الجامعة الأمريكية في بيروت وزميلة أقدم في المركز اللبناني للدراسات لبنان على موعد مع استحقاق مفصلي في آذار/مارس القادم، إذ يتوجب عليه تسديد سندات اليوروبوند البالغة قيمتها 1.2 مليار دولار لصالح حامليها الذين أصبحوا بغالبيتهم من الأجانب. وفي حال قررت الحكومة اللبنانية المضي قدماً في هذا الاتجاه، لا سبيل أمامها سوى اللجوء إلى احتياطيات المصرف المركزي الدولارية التي تضمحل بسرعة. ولعلّ المكسب الأهم الذي يمكن للبنان أن يجنيه من الوفاء بالتزاماته هو تجنيب البلاد المخاطر المتعلقة بالسمعة في سوق الدين العالمية، حفاظاً على إمكانية الاقتراض مجدداً. ولكي يتحقق هذا المكسب للبنان، ينبغي لمثل هذا القرار أن يشمل أيضاً المستحقات في المدى القريب والتي تصل قيمتها إلى 3.73 مليار دولار أمريكي إضافية في نيسان/أبريل 2021. ويعتقد مؤيدو خيار السداد أن التضحية بـ5 مليارات دولار أمريكي من احتياطاتنا على مدى 14 شهراً تضحية لا بدّ منها لتلافي النظرة السلبية التي تنجم عن إعادة الهيكلة. هؤلاء ربّما يتوقعون أنّ لبنان سيجد حلّاً سحرياً في الأشهر الـ 14 المقبلة أو أن العجز المزمن في ميزان مدفوعاتنا سيعود فجأة إلى السكة الصحيحة، لكن المؤكد هو أن احتياطاتنا ستفقد 16% من حجمها، بحسب تقارير المصرف المركزي. تفيد التجارب بأن البلدان التي أعادت هيكلة ديونها شهدت انخفاضاً قصير الأجل في تصنيفاتها الائتمانية. وفي التجارب أمثلة متعددة من حول العالم على بلدان عاودت الاقتراض، وبأسعار معقولة، بعد أن تعثّرت في الماضي. وقد أظهرت الأشهر القليلة الماضية أيضاً أن السمعة (التي تقاس على أساس التصنيفات الائتمانية وأسعار الفائدة على الاقتراض العام) تتأثر بالقدر نفسه بالتدابير التي أفرزتها مقاومة فكرة إعادة الهيكلة حتى اليوم: استخدام الاحتياطيات لتسديد الدين، واحتجاز أموال المودعين، وتطبيق إجراءات كابيتال كونترول استنسابية، وبروز سعرَي صرف في البلاد. لكن هناك بالتأكيد استخدامات بديلة لاحتياطيات البلاد من العملات الأجنبية، إذ إنّ استيراد المواد الأساسية (الوقود والغذاء والأدوية والمعدات الطبية) يبقى بديلاً أكثر إلحاحاً لاستخدام ما تبقى من احتياطاتنا الأجنبية، ولهذا البديل قاعدة أوسع من المستفيدين. وإن الضخّ التدريجي للدولار يساهم قدر الإمكان في تأجيل هبوط قيمة الليرة اللبنانية، وبالتالي تخفيف وطأة الصدمة التي ستقع على الأجراء والمتقاعدين والطبقات الفقيرة والوسطى التي يتقاضى معظم عمّالها رواتبهم بالعملة المحلية. وعلى الرغم من ذلك، لا يمكن اعتبار التحفظ على إعادة هيكلة الدين خياراً متهوراً بالكامل. فالتفاوض على إعادة الهيكلة يتطلب تخطيطاً قانونياً ومالياً ونقدياً واقتصادياً. إنّ الأزمة التي يمرّ بها الاقتصاد اللبناني لا تقتصر على مسألة استدامة الدين، لذا فإن تجاهل الأزمات المتداخلة على صعيد ميزان المدفوعات والقطاع المصرفي والسياسة النقدية لن يجلب لنا تنازلات كبيرة من مقرضينا تكفي لوضع الاقتصاد على سكة الدين المستدام. ويجب أن تركّز المفاوضات على جداول السداد وأسعار الفائدة وأصل الدين لإيجاد فسحة مالية في المديين القصير والمتوسط لإدارة الإصلاحات الشاملة المطلوبة. يُعتبر الانفتاح الذي يبديه عدد كبير من حاملي سندات اليوروبوند الأجانب حيال فكرة إعادة الهيكلة إشارة مطَمئنة. ومن المعلوم أنّ المصارف المحلية التي تستحوذ على حصة كبيرة من السندات المستحقة ستكون أقل استعداداً لتقبل هذه الخطوة ودعمها. ومن هنا تبرز أهمية تطبيق الحوافز والقيود المناسبة لكي لا تكون تكاليف إعادة الهيكلة رادعة بالنسبة إلى القطاع المصرفي الوطني أو تطال المودعين. والتحدي الآخر الذي ستواجهه الحكومة هو إذاً الدفع باتجاه حلّ يوزع تكاليف إعادة الهيكلة بشكل عادل. إنّ السير بالتخطيط نحو إعادة هيكلة الدين ينطوي على مخاطر وعلى قدر كبير من الحساسية، وهو أيضاً معقد إذا نظرنا إلى الأزمات المترابطة التي يعانيها لبنان. والسؤال العملي الذي يُطرح هنا هو: لمَ على الشعب اللبناني أن يضع ثقته في نظام بهذا القدر من الفساد وضيق النظر وانعدام الكفاءة لكي يقود البلاد على درب إصلاحية مجهولة العواقب ومضنية لجميع الناس؟ فالمخاطر المرتقبة هي في الواقع السبب وراء مماطلة الحكومات باستمرار في اتخاذ القرار بإعادة الهيكلة. في هذا الوضع، يصبح الوجود في الحكم تحدياً. كان يمكن للتغيير الحكومي الأخير أن يكون فرصة لتشكيل حكومة من خارج الأحزاب المُلامة على هذا الوضع. ويتعين على الحكومة الآن، في إطار خوضها مسيرة الإصلاحات التي تشكل منطلقاً حقيقياً للتخلي عن السياسات السابقة، أن تثبت أنها فعلاً "جديدة" كما تدّعي. |